السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

رسالة ترحيب

الخميس، 30 ديسمبر 2021

الدعاء والقَدَر

إن دعاء الله تعالى من أفضل العبادات فهي دليل على الخضوع والتذلل لله عز وجل ، واليقين على أن الأمر كله بيده وليس غيره
ولكن البعض منا يسأل لماذا الدُّعاء طالما أن كل شئ مُقدَّر و المدعو به إن كان قد قُدِّر و لم يكن بُد من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدع . وإن لم يكن قد قُدِّر لم يقع ، سواء  سأله العبد أو لم يسأله
**يقول ابن قيِّم الجوزية في كتابه الداء والدواء:
* ظنت طائفة صحة هذا السؤال ، فتركت الدعاء، وقالت : لا فائدة فيه ! وهؤلاء   مع فرط جهلهم وضلالهم   متناقضون ، فإن طردَ مذهبهم ، يوجِب تعطيل جميع الأسباب .
فيقال لأحدهم : إن كان الشبع والري قد قُدِّرا لك فلابد من وقوعهما ، أكلت أو لم تأكل . وإن  لم يُقدَّرا لم يقعا ، أكلت أو لم تأكل.
وإن كان الوَلَد قُدِّر لك فلابد منه ، وطِئْت الزوجة والأَمة أو لم تطأ . وإن لم يُقدَّر لم يكن ، فلا حاجة إلى التزوج والتسرِّي . وهلمّ جرّا ...
فهل يقول هذا عاقل أو آدمي ؟ 
بل الحيوان البهيم مفطور على   مباشرة   الأسباب التي بها قوامه وحياته . فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا.
* وتكايس بعضهم  وقال : الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض، يثيب الله عليه الدَّاعي ، من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما.
ولا فرق عند هذا الكيِّس بين الدعاء وبين الامساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب ، وارتباط الدُّعاء عندهم به كارتباط السكوت،ولا فرق.
* وقالت طائفة أخرى أَكيس من هؤلاء: بل الدعاء علامة مُجرَّدة نصبها الله سبحانه أمارَة على قضاء الحاجة . فمتى وُفِّق العبد للدُّعاء كان ذلك علامة له وأَمارة على أن حاجته قد قُضيت . 
وهذا كما إذا رأينا غَيما أسوَد باردا في زمن الشتاء ، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر.
قالوا : وهكذا حكم الطاعات مع الثواب ، والكفر والمعاصي مع العقاب ، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب ، لا أنها أسباب له.
وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحريق  مع الاحراق والازهاق مع القتل . ليس شيء من ذلك سببا البتَّة ، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد الاقتران العادي ، لا التأثير السببي ، وخالفوا بذلك الحِس ، والعقل ، والشرع ، والفطرة ؛ وسائر طوائف العقلاء
* والصواب أن ههنا قسما ثالثًا غير ما ذكره السائل ، وهو أن هذا المقدور قُدِّر  بأسباب ، ومن أسبابه الدعاء. فلم يُقدَّر مُجرَّدا عن سببه ، ولكن قُدِّر بسببه . فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور. وهذا كما قُدِّر الشبع والري بالأكل والشرب ، وقُدِّر الولد بالوطء ، وقُدِّر حصول الزرع بالبذر ، وقُدِّر خروج نفس الحيوان بذبحه . وكذلك  قُدِّر دخول الجنة بالأعمال ، ودخول النار بالأعمال
وهذا القسم هو الحق ، وهو الذي حُرِمَه السائل ولم يوفق له.
وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب . فإذا قُدِّر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال : لا فائدة في الدعاء ، كما لا يقال : لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال ! وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب .
* ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأُمة بالله ورسوله، وأفقههم في دينه كانوا أقوَم بهذا السبب وشروطه وادابه من غيرهم.
وكان عمر بن الخطاب  رضي الله عنه يستنصر به على عدوه ، وكان أعظم جُنديّه ، وكان يقول للصحابة : "لستم تُنصرون بكثرة ، وإنما تُنصرون من السماء"
وكان يقول : "إني لا أحمل هم الاجابة ، ولكن هم الدعاء. فإذا أُلهمت الدعاء فإن الاجابة معه"
* فمن أُلهم الدعاء فقد ُأريد به الاجابة ، فإن الله سبحانه يقول : " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "غافر
* وعدم اللجوء الى الله والخضوع له بالدعاء يغضبه عز وجل
 عن أبي هريرة قال :قال النَّبيّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم : " مَن لم يسألِ اللهَ يغضبْ علَيهِ" رواه الترمذي
 وصححه الألباني 
وهذا يدل على أن رِضَاه في سُؤاله وطاعته . وإذا رضي الرَّب تَبارك وتَعالى فكُلّ الخير في رِضاه
* وقد دلَّ العقل والنقل والفِطَر وتجارب الأُمم  على اختلاف أجناسها ومِللها ونِحلها   على أن التقرُّب إلى رب العالمين وطلب مرضاته ، والبر والاحسان إلى خَلْقه ، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير . وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة  لكُلّ شر . فما استُجلبت نِعم الله واستُدفعت نِقَمه بمثل طاعته والتقرُّب إليه ، والاحسان إلى خَلْقه.
* إن القران من أوله إلى اخره صريح في ترتُّب الجزاء بالخيْر والشرّ والأحكام الكونية والأَمْرية على الأسباب ، بل تَرتُّب أحكام الدنيا والاخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال .
ومن فَقِهَ هذه المسألة ، وتأملها حق التأمل ، انتفع بها غاية النفع، ولم يتكل على القَدَر جَهلا منه وعَجْزا وتَفرِيطًا وإضَاعة ، فيكون توكُّله عَجزا ، وعَجزه توكُّلا.
بل الفقيه كل الفقيه الذي يرد القَدَر بالقَدَر، ويدفع القَدَر بالقَدَر، ويعارض القَدَر بالقَدَر، بل لا يمكن الانسان يعيش  إلا بذلك ، فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القَدَر، والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القَدَر بالقَدَر
وهكذا، من وفَّقَه الله ، وألهمه رُشْده ، يدفع قَدَر العقوبة الأُخروية بقَدَر التوبة والايمان والأعمال الصالحة ؛ فهذا وِزان القَدَر المُخَوِّف في الدُّنيا وما يضاده سواء . فرَبّ الدَّاريْن واحد، وحِكْمته
واحدة ، لا يناقض بَعْضُها بعضًا ، ولا يبطل بَعْضُها بعضًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكرا للاهتمام والمتابعة

اذهب لأعلى الصفحة